على الرغم من أننا طرقنا باب منزلهم ظهراً فإنه بالكاد كان يمكن رؤية الطريق داخله في ظل انقطاع التيار الكهربائي وعدم وجود وسيلة إنارة سوى "ليدات" منتهية الصلاحية، لا تمكنك من الرؤية نهاراً فكيف بالأمر ليلاً في بيتٍ يسكنه زوجان مسنان، مع ثلاثة من الأبناء ذوي الإعاقة.
الوضع الاقتصادي بالغ السوء يشي به حال المنزل منذ لحظة دخول أي إنسان إليه، فالبيت الذي بنته "وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين" قبل عشرين عاماً تقريباً، قد اهترأت مرافقه من مطبخ وحمام، في حين لم يستطعْ صاحبه أنْ يُكمل بناءه وتأثيثه لتعطله عن العمل منذ عام 1999م بعد رفضه أمنيًا من قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذْ كان يعمل في الداخل المحتل.
ومنذ ذلك الحين والظروف المادية لا تتحسن بل تزداد سوءاً، في ظل الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة وقلة فرص العمل فإنّ المسن "م" (65 عاما) لم يتحصل إلا على فرص عمل قليلة وبشكل مؤقت وبأجر زهيد، إلى أنْ لاحت له فرصة من أحد أقربائه بأن يزوده بملابس ليفتتح محلاً تجارياً في المخيم.
يقول: "قلة درايتي بإدارة المشاريع أوقعتني في خسارة كبيرة قدرها ثمانية آلاف دولار، ما زلت أتجرع مرارتها حتى اللحظة، فأدفع لقريبي 500 شيقل من شيك الشئون الذي لا نراه إلا نادراً، فقد تراكمت علينا الديون".
ويُعيل المسن "م" ثلاثة أبناء من ذوي الإعاقة (مصابون بنوبات صرع وتأخر في القدرات العقلية) هم: الشابتان "ح" 33 عاماً و"س" 23 عاماً والشاب "م" (36 عاماً)، وهو ما يُرهق كاهل زوجته المسنة أيضاً لرؤية نفسها عاجزة عن توفير متطلباتهم خاصة أنهم من ناحية الإدراك كالأطفال الصغار.
تشتهيان الحلوى
تقول: "تشتهيان الحلويات والبسكويت وثلاجتي فارغة من الأساسيات، تقول لي ابنتي: لماذا لا ألبس مثل الفتيات؟ فلا أدري ماذا أجيبها ولا أطلب إلا الفرج من الله تعالى".
ولم تتمكن الفتاتان من إكمال تعليمهما في مدرسة خاصة بذوي الإعاقة لصعوبة الوضع المادي، "الحمد لله أحد مراكز التأهيل احتضنهما مؤخراً، وهما تذهبان يوميًا لتعلم أشغال يدوية هناك، هذا خفف عني عبء جلوسهما في المنزل بلا تعليم ولا تلفاز ولا كهرباء ولا أي وسيلة للتعليم، لكنهما تؤلمان قلبي عندما تعودان للمنزل وتطلبان مني شيئاً مما تمتلكه قريناتهما".
والمنزل الذي يعاني تهالكا في مرافقه لا يمثل بيئة مناسبة للأصحاء فكيف بذوي الاحتياجات الخاصة؟ "ندبر أيامنا بأي طعام، ولا نأكل أكلة جيدة إلا عندما يتفقدنا أهل الخير".
وتبدي الأم قلقها على مصير أبنائها من بعدها خاصة البنات منهم، "هُم حالة خاصة ليس بيدهم حيلة لمساعدة أنفسهم، فحتى الأشغال اليدوية التي تتعلمها بناتي لا أملك أموالاً لشراء مواد خام لهما لكي تطبقاها في المنزل أو تتمكنا من فتح مشروع صغير".
وتتابع: "حتى أنهما تحتاجان لحفاضات لعدم سيطرتهما أحياناً على عملية الإخراج بسبب وضعهما الصحي، أعجز عن توفيرها، وهنا يبدو الحديث عن توفير لوازمهما الأنثوية من الترف بمكان".
فلولا فاعلة خير تقوم بإيصالهما للمركز بشكل شبه يومي لما تمكنتا من الخروج والانخراط في المجتمع، فالمسافة بين المركز والمنزل بعيدة، وأنا لا أستطيع تركهما تذهبان وحدهما فأخشى أن يتعرض لهما أحد، وفي الوقت نفسه لا أملك مالاً لتوفير مواصلات لهما، تقول الأم.
ويلقي الوضع الصعب بظلاله على ابنها الكبير المتزوج، الذي لم يستطع إكمال تعليمه المهني لسوء الوضع الاقتصادي، وفي الوقت ذاته لا يجد فرصة عمل ينفق منها على زوجته الحامل وابنته، "زوجته أوشكت على الولادة، كلما اشتد بها الوجع إذا لم أجد أحداً من أهل الخير يوصلني للمشفى فإننا نمشي جزءاً كبيراً من الطريق الطويل بين النصيرات ودير البلح، لكي أوفر نصف أجرة المواصلات".
لا يمكن تعويضه
وتشعر الأم بالأسى لكون ابنها المتزوج غير قادر على الإنفاق على أبنائه وتوفير حياة كريمة لأسرته، "يعمل في عمل بسيط قرابة اثنتي عشرة ساعة ليعود بمبلغ (3-5 شواقل) يشتري بها حفاضات لابنته أو زعترا أو كوب لبن".
وجلُّ ما تتمناه أنْ يتم توفير فرصة عمل لزوجها وابنها، "احنا بنتكبرش ممكن نشتغل أي اشي، بس يشتغلوا ويسترونا.. طول ما في حبة طحين بالدار احنا مستورين".
لكن التقدم في السن يجعل حاجة الأم لترميم المنزل وتأهيل المطبخ والحمام وإصلاح الشبابيك أمراً ملحاً، "هذا المنزل على وضعه منذ بنته "وكالة الغوث" لنا، لم نستطع وضع حجر فيه أو تأثيثه، بل إذا تلف شيء من أثاثنا المتواضع لا يمكننا تعويضه".
ففي زاوية المنزل تجد ثلاجة قديمة متهالكة خالية من أي نوعٍ من أنواع الطعام وغسالة يدوية تعمل بصعوبة، "أحلم بأن أرتاح من الغسيل اليدوي، لكن هذا حلمٌ كبير في ظل أننا نأكل يوماً ونجوع أياماً أخرى".